تعكس أوضاع العمال في دول الإقليم حالة التفاعلات الداخلية في الشرق الأوسط، مثل مواصلة القيام بالإضرابات الفئوية لتحسين الأوضاع المعيشية والاجتماعية على نحو ما هو قائم في تونس والجزائر وليبيا، ومحاولة الحكومات الجديدة تعزيز شرعيتها الداخلية وزيادة الإيرادات المالية وهو ما تقوم به حكومة عبدالحميد دبيبة في ليبيا، وفقدان مصادر العمل بسبب هيمنة الميلشيات المسلحة على أجزاء من السلطة مثل الوضع في اليمن، واستمرار الأزمات السياسية ذات الانعكاسات الاقتصادية مثلما تشهد لبنان، والتعرض لعملية تهجير خارجي أو نزوح داخلي مثل حال العمال في بؤر الصراعات المسلحة كسوريا، وكذلك المعاناة من مضاعفات كوفيد-19 التي قللت من فرص العمل القائمة وقلصت من إمكانية إتاحة فرص عمل جديدة في معظم دول الإقليم.
سياق ضاغط:
يتم الاحتفال بعيد العمال في الأول من مايو من كل عام، وتمثل بيئة العمل في العديد من دول الإقليم سياقاً ضاغطاً على تلك الفئة المجتمعية، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، وتختلف تلك البيئة عما كان سائداً في العقود الثلاثة الماضية حيث تم الأخذ بنهج الخصخصة عبر بيع المؤسسات العامة وتسريح القوة البشرية العاملة فيها، وهو ما تزامن مع إضعاف النقابات العمالية وترسيخ تبعيتها للحكومات القائمة. غير أن تحولات العقد الأخير أثّرت بشكل كبير على حال العمال على نحو ما توضحه النقاط التالية:
احتجاجات مطلبية
1- مواصلة القيام بالإضرابات الفئوية: تشهد بعض دول الإقليم، مثل تونس والجزائر وليبيا، استمرار الاحتجاجات المطلبية التي قادها عمال للمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، شهد قطاع البريد والمالية والصحة، خلال الأسبوعين الماضيين، إضرابات متزامنة في الجزائر في ظل تراجع لافت للأوضاع المعيشية والقدرة الشرائية للمواطن. واللافت للنظر أن خطاب الرئيس عبدالمجيد تبون- في رسالة قرأها وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي- بمناسبة الاحتفال بعيد العمال يوم 1 مايو الماضي لم يستجب لمطالب العمال، إذ طالب المضربون بمراعاة مصالح المواطنين خلال التظاهرات والاحتجاجات العمالية في مختلف القطاعات مع تأكيده على حرص الدولة على التخفيض التدريجي لنسب البطالة.
وهنا تجدر الإشارة إلى تصريح رئيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين سليم لباطشة لـ"الشروق نيوز" بتاريخ 26 يناير الماضي، الذي قال فيه أن "العامل بحاجة لمتوسط دخل يقدر بـ75 ألف دينار حتى يتمكن من تلبية حاجياته الشهرية". وقد أتت هذه الإضرابات ثمارها في بعض القطاعات، حيث أقرت المديرية العامة لبريد الجزائر زيادة في الأجر لعدد العاملين سيتم تطبيقها بدءاً من يوليو المقبل. فضلاً عن تمكين كل عامل من راحة لمدة يومين في الأسبوع بعد شهر رمضان المبارك، وكذلك تسوية وضعية جميع العمال الذين يشغلون مناصب غير تلك المحددة في مقررات تعيينهم قبل تاريخ 31 مايو الجاري. غير أن هناك بعض المطالب التي لازالت الحكومة غير مستجيبة لها مثل العلاوات والمنح التي ظلت عالقة منذ سنوات.
وكذلك الحال في ليبيا، إذ لوّح العاملون في جهاز حماية المنشآت النفطية في بيان بتاريخ 9 أبريل الماضي، بإيقاف تصدير النفط من جميع الحقول بما فيها أكبرها وهو حقل الشرارة، وذلك في غضون أسبوعين، وهو ما اعتبر الإنذار الأول لحكومة الوحدة الوطنية، التي تُعوِّل على الإيرادات النفطية لتمويل الميزانية. ويأتي ذلك التهديد لعدم صرف رواتبهم المتأخرة وتسوية أوضاعهم المهنية وإرجاع العلاوات والترقيات و"التأمين الطبي". وسبق أن أدى الخلاف المتكرر حول صرف الرواتب إلى إغلاق عدة موانئ وحقول نفطية، في أواخر يناير الماضي، ويؤدي حدوث تلك الإضرابات إلى شلل قطاع النفط في البلاد، مع الأخذ في الاعتبار أنه منذ منتصف سبتمبر 2020، يشهد هذا القطاع نشاطاً ملحوظاً في أعقاب اتفاق بين الجيش الوطني الليبي والمؤسسة الليبية للنفط.
الشرعية الداخلية
2- محاولة الحكومات الجديدة تعزيز شرعيتها الداخلية: وينطبق ذلك الوضع جلياً على حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، حيث كتب رئيسها عبدالحميد دبيبة تغريدة على موقع "تويتر" يوم 1 مايو الجاري، أشارت إليها "بوابة أفريقيا الإخبارية"، قال فيها: "العمل الحثيث والجاد وحده ما يصنع نهضة ليبيا وعمارها"، مضيفاً: "قوتها في سواعد أبنائها كل عام وعمال ليبيا بألف خير". ويكشف هذا التصريح عن رهان النخبة الليبية الحاكمة الجديد على فئة العمال التي يتوقع أن يكون لها دور في الإعمار والبناء بعد التحول من الحرب إلى السلام، وحاجة البلاد إليهم وبصفة خاصة في قطاع المقاولات والتشييد والبناء وغيرها.
جباية الميلشيات
3- فقدان مصادر العمل بسبب هيمنة الميلشيات المسلحة: يعاني العمال اليمنيون، سواء في القطاع العام أو الخاص أو بالأجر اليومي مع الذكرى السنوية لعيد العمال، من فقدان مصادر العمل وتراجع الاقتصاد، وسقوط مؤسسات الدولة في أيدي الميلشيا الحوثية، إذ يشير أحد التقديرات إلى أن ثمانية ملايين من العمال فقدوا أعمالهم وتعرضوا لانتهاكات مختلفة في ظل الممارسات الحوثية، وبصفة خاصة في محافظات صنعاء وذمار والمحويت وحجة وريمة وعمران لاسيما في ظل سياسة النهب المنظم التي تقوم بها الميلشيا لاسيما بعد إغلاق العديد من المؤسسات والشركات والمصانع والمحال التجارية وقيام بعضها بتسريح العمال نتيجة سياسة البطش والجباية الحوثية عبر الرسوم الجمركية والضرائب المرتفعة بحيث صارت بيئة العمل طاردة للاستثمار.
بعبارة أخرى، شهدت فترة السيطرة الحوثية تعطل سوق العمل والحركة التجارية. غير أن عمال الأجر اليومي من الحرفيين وفي المهن الزراعية والصيد وحتى أصحاب الأشغال اليدوية هم أكثر الفئات تضرراً من سيطرة الحوثي الميدانية على عدد من المحافظات اليمنية. وفي هذا السياق، قال رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال اليمن علي بلخدر لموقع "اندبندنت عربية" بتاريخ 5 مايو 2021: "إن تأثيرات الحرب كانت كبيرة على العمال سواء في القطاع العام أو الخاص أو المختلط أو القطاع غير المنظم، والتي من أهمها توقيف الرواتب لبعض موظفي القطاع العام منذ سيطرة الحوثي منذ عام 2016 حتى اليوم ما شكل معاناة وصعوبات عديدة للعمال وأسرهم، وانقطعت معه كل سبل العيش في حده الأدنى لملايين الأسر وخلّف قضايا اجتماعية وصحية وتعليمية ومثلها كذلك بقية الخدمات التي يحتاجها الإنسان من كهرباء ومياه وغيرها".
وهنا تجدر الإشارة إلى الجهود التي يبذلها الاتحاد العام لنقابات عمال اليمن من أجل دعم العاملين في بعض القطاعات بالتعاون مع الجهات الحكومية والمنظمات النقابية والاتحاد العربي للنقابات والاتحاد الدولي للنقابات ومنظمة العمل الدولية، إلا أن مستقبل العمل في البلاد لايزال مظلماً، إذ أن أطراف الصراع لا تولي اهتماماً لمستقبل العمل في ظل الانشغال بالحسم في جبهات الصراع، الذي لم يحدث حتى الثلث الأول من مايو الجاري.
ضغوط مركبة
4- استمرار الأزمات السياسية ذات الانعكاسات الاقتصادية الضاغطة: وهو ما ينطبق على لبنان على سبيل المثال، إذ يواجه العمال اللبنانيون مشكلات متعددة تؤثر على أوضاعهم المعيشية خلال عام 2021، وهو ما يمثل امتداداً للحال في العام الماضي. فالتعثر المالي والاقتصادي يتزامن مع أزمة سياسية حادة وعدم قدرة المرشح لتشكيل الحكومة سعد الحريري على الانتهاء من مشاوراته –بحيث يخلف حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسان دياب- للتعامل مع التحديات المختلفة التي تواجه الدولة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تصريح رئيس الاتحاد العمالي العام في لبنان بشارة الأسمر بأن عيد العمال هذا العام هو الأسوأ منذ عشرات السنين، على نحو فسره البعض بأنه الأسوأ منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، وقال الأسمر أن "عمال لبنان في حالة كارثية".
مروحة الصراعات
5- التعرض لعمليات تهجير خارجي أو نزوح داخلي: وينطبق ذلك على وضع العمال في بؤر الصراعات المسلحة مثل العمال السوريين. فهناك العديد من الكتابات تشير إلى تأزم أوضاع العمال السوريين اللاجئين في دول الجوار الجغرافي مثل لبنان والأردن والعراق وتركيا. فقد كشف تقرير حديث للأمم المتحدة أن هناك ما يزيد عن 5.5 مليون لاجئ سوري مسجل في الدول المجاورة لسوريا حتى 10 فبراير 2021، وأغلب اللاجئين في المنطقة هم من النساء والأطفال، بنسبة 66 في المئة، ويعيش 1.8 مليون شخص في المخيمات العشوائية، وهو ما يشير إلى أن أحوال العمال القاطنين في تلك المناطق بائسة في حال حصولهم على مصدر للرزق من الأساس.
انتشار كورونا
6- المعاناة الإضافية من تأثيرات كوفيد-19: واجه العمال في العديد من الدول العربية انعكاسات سلبية نتيجة تفشي جائحة كوفيد-19، لاسيما العاملين في القطاعات غير المنتظمة أو الهامشية، الأمر الذي يعكس هشاشة الحماية الاجتماعية لتلك القطاعات التي لا يتوافر لها تأمين صحي أو اجتماعي، ولا تتاح لها إعانات بطالة، مع الأخذ في الاعتبار أن بعضها نال إعانات غير منتظمة خلال الموجة الأولى لكوفيد-19 في عام 2020، لاسيما في ظل اتجاه العديد من الدول للإغلاق الجزئي أو الكلي، حفاظاً على الصحة العامة. وتشير العديد من التقارير المتخصصة مثل التقرير الاقتصادي العربي الموحد إلى تزايد موجات الفقر والبطالة في العديد من الدول العربية خلال عامي 2020-2021.
فقد أدت الجائحة إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وشلل قطاع الطيران وتأثر وضع السياحة، على نحو فرض تداعيات على العاملين في تلك القطاعات. غير أن حدة التأثير طالت الفئات المتضررة من اشتعال الصراعات المسلحة. وتظهر الدراسات التي أجرتها منظمة العفو الدولية في الأردن ولبنان والعراق بالتعاون مع مجموعة شركاء التنمية والعمل الإنساني، أن اللاجئين السوريين والعاملين في القطاع غير المنظم والنساء والعمال الأصغر سناً تضرروا من الأزمة أكثر من بقية الفئات وفقاً للأثر المباشر لكوفيد-19. وفي هذا السياق، قال فرانك هاغمان القائم بأعمال المدير الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية في 13 أكتوبر 2020: "كما في مناطق أخرى، خلقت جائحة كوفيد-19 تحديات اقتصادية إضافية في الدول العربية، وتضررت بشدة قطاعات رئيسية غنية بالوظائف".
مستقبل غامض:
خلاصة القول، إن مستقبل العمل والعمال في العديد من الدول العربية يواجه تحديات لا أول لها من آخر، لاسيما في مرحلة ما بعد انتشار الجائحة لدرجة أن البعض يعتبرها "أسوأ أزمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية"، ولا توجد مؤشرات تلوح في الأفق توحي بأن تلك التحديات يمكن التغلب عليها في الأمد الزمني القصير، ويتطلب التعامل معها أدوار عديدة من المنظمات والاتحادات الدولية والإقليمية المعنية بهذا الملف، وإن كان التحدي الرئيسي منصب على سياسات الحكومات أو الكيانات البديلة في الإقليم تجاه هذا الملف.